يقول الناقد الأمريكي تيري باريت، أن أفضل وسيلة لتقدير صورة “مشاهدتها والتفكير بها والحديث عنها”. ولكنني أخذت نصيحة باريت بحماس أكثر بخصوص صورة شروق القمر لـ انسل آدمز. شروق القمر احد أهم وأجمل صور انسل آدمز. هو شخصيا ذكر ذلك في كتابة (الأمثلة.. صناعة أربعين صورة فوتوغرافية) حين قال، “أنها أكثر صوره جماهيرية”.
أتذكر أول حديث عن تلك الصورة كان مع الصديق الفنان الدكتور طارق الجهني، رحمه الله، حين نشرت مجلة بلاك اند وايت الأمريكية خبرا عن بيعها بمبلغ قياسي قبل بضعة أعوام.. ربما في أواخر 2002م إن لم تخني الذاكرة.
قصة التقاط انسل آدمز لهذه الصورة قصة تاريخية، أطول من الحديث عنها هنا. ويكفي اختصارها بأنها التقطت لشروق القمر فوق مقبرة في قرية صغيرة في شمال ولاية نيومكسيكو تدعى هرنانديز. والتقطت بكاميرا القطع الكبير (10×8)انش والتقط خلال ثوان قبل غروب الشمس وبدون أن يكون لدى انسل آدمز مقياس للضوء حيث قدر بخبرته بناءا على معرفته بإضاءة القمر تعريض الصورة. إنها كما يقول عنها “لحظة عاطفية/رومانسية من الزمن”. ولسنوات طوال لم يتذكر انسل آدمز تاريخ التقاط الصورة. ولكن مع شهرة الصورة المتنامية تمكن عالمان فلكيان في فترات مختلفة من زيارة المكان ودراسته لتحديد متى التقطت وكانت أكثر دراسة صوابا ترشح إنها التقطت في الأول من نوفمبر 1941م في الساعة الرابعة وتسعة وأربعين دقيقة.
وفي العام 2003م كتب الفوتوغرافي السعودي الذي يلقب نفسه بـ “ابن الهيثم” قراءة نقدية للصورة في منتدى جسد الثقافة. أضافت تلك القراءة العبقرية والفريدة بعدا جماليا للصورة بالنسبة لي. لقد أعطتني تلك القراءة حالة تقدير/وفهم إضافية للوحة. ولكن بدون خبرة ودراسة التصوير والتحميض بالأبيض والأسود ومشاهدة الصورة الأصلية لن تكتمل حالة التقدير لتلك الصورة والمتعة من مشاهدتها.
في فبراير العام 2008م زرت نيومكسيكو وتحديدا مدينة سانتا فاي التي تبعد عنها هرنانديز ما يقارب النصف ساعة. كنت حينها في طريقي غربا إلى كاليفورنيا. لم يسعفني الوقت للخروج من سانتا فاي شمالا. ولم أكن انوي زيارة هرنانديز لان فكرة زيارة مقبرة في تلك الفترة لم تكن قد أتت. أيضا أدركت أن سانتا فاي تحتاج أياما للاستمتاع بزيارة متاحفها ومعارضها. لذا امضيت يومان في سانتا فاي الجميلة وقررت وأنا أغادرها أن أعود يوما لزيارتها.
في أواخر العام 2008م أقيم معرض لأعمال انسل آدمز في مدينة تلسا، ولاية أوكلاهوما، التي تبعد ساعة ونصف عن مقر إقامتي في مدينة أوكلاهوما، وقررت أنا واحد الأصدقاء زيارة المعرض واستمتعت لأول مرة برؤية نسخة أصلية لشروق القمر طبعها انسل ادمز بنفسه. ولمن يدرك الفرق بين الصورة الأصلية المطبوعة يدويا والصورة المطبوعة او المنسوخة رقميا او المعروضة على شاشة كمبيوتر يدرك الفرق الفيزيائي والعاطفي لما أتحدث عنه.
في ربيع العام 2009 م درست التصوير والطباعة بالأبيض والأسود، وتحدث مع أصدقاء عن الصورة. وتأملت الصورة أكثر وفكرت بالصورة ودرست الصورة وقرأت عنها في كتاب آدمز وبعض المقالات المتعلقة بها. وحينها قررت أن ازور هرنانديز في زيارتي القادمة إلى سانتا فاي، نيومكسيكو وابحث عن تلك المقبرة التي تظهر في الصورة.
قبل الرحلة، بحثت على الانترنت بشكل مكثف فلم أجد أي معلومات مفيدة عن مكان المقبرة، إلا خريطة بسيطة مرفقة مع مقال عن الصورة توضح مكان قرية هرنانديز وليس المقبرة تحديدا. وجدت في بعض المنتديات الالكترونية الأمريكية أسئلة حول مكان المقبرة ولكن لم يكن هناك إي معلومة واضحة إلا من احد المصورين المحترفين في سانتا فاي الذي وضع زيارة المقبرة في برنامجه التدريبي لمصوري الكميرات القطع الكبيرة (لارج فورمات).
في 17/3/2009م وصلت سانتا فاي قادما من مدينة دنفر كولورادو لزيارة المقبرة. في ظهيرة اليوم التالي 18 مارس 2009م انطلقت من سانتا في باتجاه هرنانديز..إي بعد ما يقارب السبعين سنة من لحظة التقاط انسل آدمز لتلك الصورة. هرنانديز قرية فقيرة جدا تقع على الطريق السريع رقم 84. مع ذلك فقد تغير المكان كثيرا عما كان عليه حين التقط انسل آدمز تلك اللحظة العاطفية والتاريخية. وقد ذكر ذلك انسل آدمز نفسه حين زار المكان لأخر مرة عام 1980م أي بعد أربعين سنة. يقول انسل آدمز حين رأى ما حدث من تغيير للقرية والبيوت وحتى للمقبرة نفسها، “لم أكن لأتوقف هنا لالتقاط صورة لهذه الفوضى. لا يوجد شيء يمكن ان أتصوره/أتخيله هنا”. مع ذلك لقد شعر أهل هرنانديز بالفخر لان صورة شروق القمر العظيمة ملتقطة في منطقتهم، ومما ذكرته كاتبة سيرة حياة انسل آدمز ماري ستريت اليندير، “ان انسل ادمز طبع نسخة من صورة شروق القمر وأرسلها إلى المدرسة الابتدائية في هرنانديز وكتب الإهداء (إلى ناس هرنانديز).
قبل وصولي إلى هرنانديز لم أكن أتوقع ان أجد المكان بسهولة. حيث تغير الطريق القديم الذي كان مسافرا عليه انسل آدمز بطريق سريع حديث مجاور له. وكما عرفت من حديث كاتبة سيرته ان المكان تغير كثيرا. عند وصولي الى هرنانديز واجهتني بيوتها المتناثرة حول الطريق السريع. ووجدت لوحة تشير إلى مدرسة هرناندير الابتدائية التي افترض ان لوحة انسل ادمز التي اهدها لها لا تزال هناك. كانت المدرسة مغلقة و لم أجد إلا رجل مسن يعمل في ساحة بيته الخلفية و يبدو أنه من سكان المنطقة الأصليين او من اصل مكسيكي ممن استقروا في المنطقة منذ عدة قرون. سالت الرجل عن المقبرة. لم يستوعب السؤال او لم يستوعب لماذا اسأل عن مقبرة، وحين ذكرت اسم انسل آدمز وسبب بحثي عن المقبرة زادت حيرته أكثر. تركت الرجل واتجهت إلى الجانب الأخر من الطريق وبالصدفة التقيت بفتاة كالفورنية تتمشى مع كلبها في ساحة بيتها، كانت للتو أتت إلى هرنانديز للعمل ولكنها لا تعرف شيء عن المكان ولكنها عرفت المصور وعرفت الصورة وتحمست للمساعدة واتصلت على شخص لسؤاله ولكننا انتهينا بدون تحديد المكان صحيح.
حاولت استغلال كل المعلومات التي ذكرها انسل آدمز عن هذه الصورة في كتابه حيث قال انه كان متجها جنوبا من نهر تشام بالقرب من “سبانيولا” باتجاه سانتا فاي. يقول انسل آدمز أيضا انه حين لمح هذا المشهد على جهة اليسرى –بينما هو متجه جنوبا- أي انه كان مسافرا على الطريق الذي تقع عليه اللوحة الواضحة هنا. فقررت البحث في الجهة اليسرى للطريق الواقعة على يمين القادم من سانتا فاي.
تجولت في المنطقة، التي تعتبر أجزاء منها محميات للهنود الحمر حيث الفقر والشوارع غير المسفلتة ووجدت أكثر من مقبرة. كانت هذه المقبرة هي الأكثر إمكانية أن تكون تلك المقبر الظاهرة في صورة انسل ادمز لوجود الكنيسة الطينية والصلبان على المقابر.
حينها خرجت من السيارة للتجول في المكان. مرت بجانبي سيدة من أهل هرنانديز. لم أفكر بسؤالها عن المقبرة أو عن انسل آدمز. شعرت أنها مهمومة أكثر بالحياة من تحديد مكان المقبرة. ولكني كنت أدرك أنها ستشعر بالفخر حين اخبرها أنني أتيت لزيارة المكان بسبب صورة جعلت هذه القرية أيقونة، جعلت أهلها معروفون أكثر من غيرهم من قرى الغرب الأمريكي.
تأملت المقبرة والكنيسة الطينية. كنت أتخيل انسل آدمز في الجهة المقابلة يلتقط الصورة. لأنني في هذه الحالة سأكون مواجها لغروب الشمس بينما الجبال الظاهرة في صورة انسل آدمز ستكون خلفي مباشرة.
مع كل هذه المحاولة لا يمكن أن اجزم أن هذه المقبرة هي التي ظهرت في صورة انسل آدمز.. ربما هي مقبرة أخرى قريبة ولكن حتما كنت في ذات المنطقة، التي أصبحت فوضى كما قال انسل آدمز بنفسه.
قصة إضافية ليس لها علاقة بالصورة مباشرة ولكنها قد تشرح تلك الحالة التي عشتها حين زيارة المقبرة..زميل دراسة افروامريكي اعتذر عن حضور محاضرة لمادة الكتابة الإعلامية في الجامعة حتى يستطيع السفر من أوكلاهوما إلى واشنطن دي سي لحضور حفل تنصيب الرئيس الأمريكي باراك اوباما مطلع العام 2009. وحين عاد الأسبوع التالي، طلب منه المدرس أن يشرح لنا قصة رحلته وحضوره حفل التنصيب. كان يتكلم بعاطفة جياشة. قال، “لم أتمكن من مشاهدة الرئيس نظرا للزحام ولكنني كنت سعيدا لأنني كنت في المنطقة ذاتها.. ببساطة.. إنها لحظة ممتعة أن أكون في تلك المنطقة”.
هل تستحق تلك المقبرة أن أسافر للبحث عنها وأتأمل المكان واستعيد تلك اللحظة التاريخية واكتب عنها وأشارك الآخرين؟ لا ادري! انها مجرد رحلة تاريخية لي لتقدير صورة تاريخية وتقدير مصور عظيم.